loader

قانون الفضل

قانون الفضل

قانون الفضل

كنت أقرأ كتاب الله عز وجل فاستوقفتني هذه الآية " وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "" سورة البقرة آية 237

 

فيها لفتة ربانية مبهرة لمن تأمل, لفتة توضح مراد الله عز وجل في العلاقات الإنسانية لترتقي من كونها فعل وردة فعل , إلى مستويات أعلى بكثير ولتكون العلاقات ربانية.

الآية تتحدث عن إدارة الحقوق المالية بين اثنين يريدان الطلاق في مرحلة ما قبل الدخول.

وهنا أنا لا أريد أن أعرض تفسيرا للآية إنما أقدم طرحا أسريا لا تفسيرا فالتفسير محله كتب التفسير.

عبارة " ولا تنسوا الفضل بينكم " عبارة رائعة فيها توجيه للرجل وللمرأة معا , فما هو الفضل؟

بداية كلمة فضل في اللغة تعني " الإحسان ابتداء بلا علة " المعجم الوسيط باب الضاد صفحة 726

أي أن تقدم الإحسان في التعامل مع الآخر دون أن يكون لهذا الإحسان علة أو سبب لتصرفك بالإحسان

فإذا كان لتصرفك مبرر بأن الآخر قد تصرف معك بإحسان لا يكون فضلا إنما هي ردة فعل طبيعية.

 

من ناحية التوقيت الآية تتحدث عن توقيت ما قبل الدخول من قبل أن تمسوهن- وبعيدا عن اختلاف المفسرين في المساس هل هو الجماع أم الخلوة المهم أن المساس لم يحدث .

تأملت في زماننا كيف تكون العلاقة بين الزوجين دون مساس؟ ما توقيتها؟ فوجدت أنها مرحلة ما بعد كتب الكتاب وما قبل الدخول هي المرحلة التي يكون فيها المهر معلوما وموثقا , ولكن الدخول لم يحدث. وهذه عادة ما تكون في بدايات العلاقة الجادة.

 

الله عز وجل يوجه كلا الطرفين بقوله " ولا تنسوا الفضل بينكم" , فالخطاب ليس موجها للأزواج الذين مضى على زواجهم وقتا طويلا أو قصيرا , إنما الحديث لمن لا زالوا في طور التجهيز للزواج. وهنا يبرز السؤال , ما الفضل الذي يكون بين رجل وامرأة لم يحدث بينهم دخول إنما مجرد عقد واتفاق على مبلغ مالي معين كمهر لحياة زوجية ؟

أرى - والله تعالى أعلم - أن الله عز وجل يشير إلى مبدأ عميق جدا , وهو قانون الفضل في العلاقة. فعلاقة الزواج تقوم على من يـُقـدِّم أكثر للطرف الآخر, ولا تقوم على مبدأ الحقوق والواجبات كما يصورها الكثير من الأطروحات الغربية والعربية أيضا.

 

فمبدأ الحقوق والواجبات يهدف لحفظ المرتبة الأدنى من العلاقة بين أي اثنين , أو أي

مكونين , وحينما يركز كل طرف على واجباته وحقوقه فقط , تصبح العلاقة الإنسانية علاقة جافة جدا بل وتصبح هذه الحقوق والواجبات محطات للخلاف أكثر منها محطات للاتفاق بين الزوجين.

في قانون الفضل المسألة تختلف فالفضل يعتمد على أي الأطراف سيقدم للآخر الأفضل والأحلى بغض النظر عن عمق العلاقة بين الطرفين , فقانون الفضل يعتمد على أن الشخص الذي يريد أن يقدم للآخر شيئا ليس فقط لأن الآخر يستحق فقط , بل لأن الطرف الذي يقدم يحمل في شخصه سمات الفضل والعطاء وليس مجرد ردود أفعال طيبة إذا صدرت باتجاهه تصرفات طيبة.

والحث على الفضل في مرحلة ما قبل الدخول هو مؤشر واضح على أن أساس العلاقة الأسرية هو الفضل وليست الحقوق والواجبات فقط.

 

 

فمن هي الشخصية التي تقدم الفضل على الحقوق والواجبات؟

هي الشخصية التي تحمل مستوى أخلاقيا عاليا , ذلك المستوى المتأتي من فهم عميق للحياة وللذات وللكينونة الأسرية , بل وأكثر من ذلك الأصل أقول الأصل فللأسف ليس هذا ما يحدث أن يكون الشخص المتدين هو من يقيم علاقته بالآخر على مبدأ الفضل في العلاقة , وليس حقي وواجبي ذلك أن المتدين هو الذي مرت عليه هذه الآية مرارا وتكرارا , سماعا أو تلاوة , والمتدين هو من يفهم حكمة دينه من الزواج , ولأن المتدين هو الذي يعتبر الزواج واحدا من أبواب العبادة لله عز وجل , فكلما أقام علاقته بالآخر على مبدأ الفضل , سترتقي درجته عند الله عز وجل , فبالتالي كان الحث على الزواج بذات الدين وبصاحب الخلق والدين مبررا جدا.

فالفضل كما أراه بحسب الآية هو المساحة الربانية في شخصية أي إنسان إذا افترضنا أن شخصية الإنسان تحتوي مساحات ربانية وأخرى غير ربانية.

 

في أيامنا نلحظ أن هناك دعوات لإعادة الحقوق للمرأة , وبدأت دعاوى مضادة أيضا بإعادة الحقوق للرجال , تلك الدعوات لو تحققت ستزيد بالتأكيد من نسب الخلاف بين الزوج وزوجته , قد تقلل من نسب الطلاق لكنها ستزيد من نسبة الخلاف , فسيكون المجتمع على شفا الانهيار لأن منظومة الحقوق والواجبات فيها من الجفاف كما أسلفت ما يجعلها سببا من أسباب المشكلات الأسرية. إضافة إلى أنها تلغي طابع التلقائية في الحياة , وتحولها إلى أشبه بشركة روتينية كلٌّ يقدم ما عليه فقط من واجبات , ويطالب بكل حقوقه كاملة.

 

إن تأدية الواجبات فقط ومنح الحقوق كاملة , لا يقيم أسرة منتجة صالحة يسودها الهدوء والحب هي تقيم أسرة عادية , التعامل بين أفرادها قائم فقط على ما لي وما علي.

شخصيا أرى هذا البيت عبارة عن مجموعة أشخاص آليين متواجدين معا.

ليس معنى كلامي أنني أرفض مبدأ الحقوق والواجبات ,لا أبدا , فالحياة تحتاج إلى نظام يسير عليه الجميع , وقانون ينظم الحياة ككل , ولكن في الحياة الزوجية تحديدا أن تسير الأسرة بقانون الفضل أفضل أضعافا مضاعفة من سيرها بقانون الحق والواجب.

قانون الفضل يتضمن مبدأ الرحمة بالطرف الآخر , فإذا دخل مكون الرحمة والحب والفضل معا ماذا سيكون مسار الحياة الزوجية وكيف ستكون هذه العلاقة؟

 

يظن أهل العشق والهوى أن الحب هو إكسير الحياة الزوجية , والله عز وجل لم يقر لهم قاعدتهم والدليل نص الآية الكريمة الفضل هو أصل العلاقة بين اثنين لا زالت العِشرة بينهما في بداياتها

فالحب لم يمنع الحياة من أن تنقلب بين أي حبيبين إلى كسر قلوب , وكراهية في بعض

الأحيان , ولم يمنع الحب من هضم حقوق أحد الطرفين للآخر , وهذا ما تثبته أي جولة قصيرة في المحاكم الشرعية , فالقضية لا تحتاج لبحث علمي لإثباتها , ولكن الفضل إن أقامه أهله على

حقيقته , سيمنع بالتأكيد كسر قلب أحد , والفضل لن يسمح أبدا بهضم حق أحد, بل وأكثر من ذلك علاقة الفضل تجعل من الشخص يتنازل بإرادته عن بعض حقوقه إذا ما لاح له تقصير من الآخر وهذا ما أشار إليه ابن عباس فيقول في تفسير هذه الآية" وللرجال عليهن درجة " ( ما أحب أن أستنطف ( آخذ ) جميع حقي عليها, لأن الله تعالى يقول: " وللرجال عليهن درجة " والدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة, والتوسع للنساء في المال والخلق , أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ). قال ابن عطية : ( وهو قول حسن بارع ). القرطبي : الجامع لأحكام القرآن

وهذا لا يمنع من أن تسابق المرأة الرجل في علاقة الفضل .

 

فإذا كانت العلاقة قائمة على هذا المبدأ الرباني منذ بدايات تشكلها وتعمق هذا الفضل مع بداية تشكل مشاعر الحب إلى أين ستصل العلاقة؟

ومن فوائد قانون الفضل بين الزوجين أنه يحمي العلاقة الأسرية بجميع مراحلها حتى لو انتهت بانفصال فليس كل العلاقات ستبقى متصلة , فالطلاق هو واحد من أهم المواطن التي يجب فيها إظهار قانون الفضل مع الآخر. حتى لو لم الآخر مطبقا لهذا القانون الفضل تعبير عن حامله أكثر من كونه استحقاق للآخر .

وأكثر من هذا إذا كان الأساس الفضل وتعمق بالحب وبدأت تتشكل بين الزوجين العشرة الطيبة والأحداث الرائعة من تضحية وإيثار وسهر واهتمام وإشباع واحترام ومساندة ودعم إلى أين ستصل العلاقة؟

هل هذا الكلام نظري؟ بكل تأكيد نظري , لا أشكك في هذا.

هل من الممكن أن يكون واقعي؟ أيضا بكل تأكيد, لماذا يصر البعض على تحويل عجزهم إلى انتقاد للكلام على أنه نظريات فقط؟

ليبذل من اقتنع بالكلام جهده بأن تكون علاقته بالآخر قائمة بقانون الفضل وليكن هو ذاته قدوة عملية للناس الذين فقط يقولون إن هذا الكلام نظري دون أن يقوموا بأدنى جهدهم.

فهم وتطبيق قانون الفضل في الحياة الزوجية من بدايتها إلى منتهاها هو الذي سيعطي لمشاعر الحب بين الزوجين طابعا ربانيا يشعر به حاملوه وسيشعرون أن الحب في قلوبهم فعلا تحار اللغة في وصفه لأن اللغة أصغر من أن تدرك الربوبية وصفاتها وسيعلمون بكل تأكيد إن من يحب دون فضل تقف علاقته بالآخر ضمن حدود جودة شخصية كل طرف من الأطراف .

لنفعل قانون الفضل بــــ " ولا تنسوا الفضل بينكم " .

أحمد عبد الله

 

تعليقات